في زوايا الذاكرة المظلمة تختبئ قصص لم تُروَ بعد، ربما كانت مجرد لحظات عابرة في حياة كثيرين، لكنها تتحول مع مرور الزمن إلى أحداث تتقاطع مع الواقع بحيث لا يفرق المرء بين ما كان وما أصبح. هكذا كانت قصة “ياسر” الذي عاش تجربة غريبة، حيث تحولت ذكرى قديمة دفينة إلى جنون جديد يحكم حياته.
كان ياسر رجلًا بسيطًا في الثلاثين من عمره، يعيش حياة هادئة في مدينة صغيرة. لكنه في أحد الأيام، وبينما كان يرتب صندوق قديم في علية منزله، عثر على ألبوم صور قديم يعود لسنوات طفولته. لم تكن هذه الصور مجرد صور عادية، بل حملت في طياتها لحظات مفعمة بالفرح، اللعب، والبراءة. ومع كل صورة كان يتصفحها، عاد ياسر يعيشه تفاصيل الذكريات، صدى ضحكاته، وأصوات أصدقائه.
في البداية، كانت العودة إلى هذه الذكريات مفرحًا ومريحًا له، لكن شيئًا غريبًا بدأ يحدث. كل صورة كانت تنبض بالحياة داخل عقله، تتحول إلى مشاهد حية تطلق شرارة خيالات متكررة تلتصق بأفكاره وتطارده في يقظته ومنامه. بدأت تلك المشاهد تتحول تدريجيًا من مجرد ذكريات جميلة إلى هواجس مُقلقة. ياسر أصبح يعيش في عالم موازٍ، بين الحاضر وماضٍ لا يستطيع الإفلات منه.
ومع مرور الأيام، بدأ يرى تلك الذكريات تتحول إلى مواقف غريبة، حيث تتغير الأحداث وتتداخل الأشكال، فتتحول الشخصيات إلى وجوه غير مألوفة، والصور إلى كوابيس من الماضي تتغذى على خوفه وشجون قلبه. الجنون لم يكن حالة فجائية، بل هو تراكم ليالي بلا نوم وأفكار لا تهدأ.
لم يكن ياسر يدرك أن تلك الذكريات التي ظن أنها منبع سلوانه، قد تحولت إلى أسير داخلي يعانده ويختطفه بعيدًا عن واقعه. فكان عليه أن يواجه هذا الجنون الجديد، ليس بالهرب منه، بل بمحاولة فهم جذوره، والقبول بأن بعض الذكريات القديمة لا تمتلك سوى القدرة على إعادة تشكيل حاضرنا، وقد تكون أحيانًا أعمق وأقوى من أن نستسلم لها بسهولة.
ولحسن الحظ، لم يكن وحده، فقد التقى بصديق قديم كان يعرفه منذ الطفولة، وشاركه تلك الحالة. بدأ الحوار والدعم، ومع الوقت والتفهم، بدأت تلك الذكريات تأخذ مكانها الطبيعي في قلبه وعقله، دون أن تتحول إلى وحش يلتهم سكينته.
هكذا تعلم ياسر أن الذكرى القديمة قد تصبح جنونًا جديدًا لما لها من قوة على تشكيل نفسيتنا، لكنه أيضًا تعلم أن مواجهة هذه القوى تتطلب الشجاعة والوعي والبحث عن الدعم، فلا يسمح للماضي أن يسيطر على الحاضر، بل يظل ذكرى نستمد منها قوة للاستمرار.